الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنْ نَقُولَ الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ بِدْعَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْإِجْمَاعُ وَقَوْلُ السَّلَفِ وَالْحُكْمُ
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 58]
ذَمَّ الْجَدَلَ وَقَالَ أَيْضًا: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 68]
قَالُوا: فَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ»
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ»
وَقَوْلُهُ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدْرُ فَأَمْسِكُوا»
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ لَمْ
(razi:2/330)
تَتَكَلَّمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَيَكُونُ بِدْعَةً فَيَكُونُ حَرَامًا
أَمَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا تَكَلَّمُوا فِيهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ فِي/ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ كَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِنْكَارًا عَلَى مَنْ خَاضَ فِيهِ
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بدعة وكل بدعة حرام بالاتفاق
أما الْأَثَرُ
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ قِيلَ وَمَا الْبِدَعُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْكَلَامِ فَقَالَ اتَّبِعِ السُّنَّةَ وَدَعِ الْبِدْعَةَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَى الشِّرْكِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ
لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْرِهِمْ مَا جَاءُوا إِلَّا بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزُّخْرُفِ: 58]
فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَدَلِ بِالْبَاطِلِ، تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَامِ: 68]
فَجَوَابُهُ أَنَّ الْخَوْضَ لَيْسَ هُوَ النَّظَرُ، بَلِ الْخَوْضُ فِي الشَّيْءِ هُوَ اللَّجَاجُ
لِأَنَّ النَّهْيَ الْجُزْئِيَّ لَا يُفِيدُ النَّهْيَ الْكُلِّيَّ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَنَقُولُ: إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَلْفَاظَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ في الكلام، كما أنهم لم يستعلموا أَلْفَاظَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِي الْفِقْهِ الْبَتَّةَ
وَأَمَّا تَشْدِيدُ السَّلَفِ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ
(razi:2/331)
kitab Mafatih al-Ghaib